السبت 21 أغسطس 2021
في كتابه الصادر حديثًا "فلسفة البلوك"، يقول الكاتب محمد عبد الرحمن:
«في عام 1958، أطلق كاتب إنجليزي مقيم في أمريكا تحذيرًا من أن القرن اللاحق، يقصد به القرن الذي نعيشه الآن، سيشهد ذروة ممارسات "قوى ضخمة متجردة" وهي القوى التي تسيطر على التكنولوجيا الحديثة، والتي رآها دومًا تهدد حرية الفرد. كان ذلك في كتاب اسمه "عالم جديد رائع من منظور جديد"، والنصف الأول من الاسم هو عنوان روايته الأشهر "عالم جديد رائع" التي أصدرها عام 1932، والتي تصنف كواحدة من أبرز روايات الديستوبيا في أدب القرن العشرين، و"الديستوبيا" نوع أدبي يعتمد على تخيل المبدع لحياة الناس في ظل قوانين فاسدة وقواعد تنتهك خصوصياتهم وتجبرهم على أن يكونوا جميعًا نسخًا من بعضهم البعض.
الكاتب المقصود في الفقرة أعلاه هو ألدوس هكسلي، الإنجليزي الذي انتقل للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1937 وتوفي على أرضها مطلع ستينيات القرن الفائت، لكنه ومنذ روايته المذكورة قبل قليل، يحذر دومًا من أن التقدم في العلم لن يكون في مصلحة الإنسان، طالما لا ضامن لعدم استخدامه في السيطرة على العقول وتحديد مصائر الناس طبقًا لعمليات ميكانيكية بعيدًا عن العواطف والمشاعر والتميز، الذي هو من المفترض يجعل لكل روح إنسانية بصمتها الخاصة.
هكسلي كتب كل ذلك وتوقعه قبل عقود من ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، كان فقط يستشرف الحياة في ظل بوادر اختراع التليفزيون فلم يكن الحديث عن الحاسب الآلي قد ظهر بعد. وإذا تركناه وذهبنا لكاتب إنجليزي آخر هو جورج أورويل، الذي تأثر كثيرًا بهكسلي، سنراه في روايته ذائعة الصيت "1984"، وقد جعل الشاشات تراقب الناس في بيوتهم، وكان هذا حتى قبل انتشار أجهزة التلفزيون في كل البيوت، كون الرواية مكتوبة عام 1949.
إذا تأملنا كل ما سبق، يمكن القول إن الأدب العالمي توقع ما نعيشه منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، والذي بدأت إرهاصاته بظهور الإنترنت نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، غير أن ما أضافه الواقع على خيال الأدباء هو أن الناس الآن باتت تسلم نفسها للمراقبة طوعًا، دون الحاجة لأن تلتقط الشاشات ما يفعلون رغمًا عنهم. بطل رواية "1984" كان يجتهد مع حبيبته طوال الأحداث للهروب من الرقيب، لكن أبطال هذا العصر، نفس الناس العاديين كما بطل رواية أورويل، يذهبون بأنفسهم لمن يراقبهم، ولا يميزون بين ما يجب أن ينشروه عن حياتهم، وما يلزم الاحتفاظ به داخل ذواتهم، أو في ذاكرة الموثوقين فيهم وحسب.
إذا كانت الفلسفة هي حب الحكمة، وإذا كان التفكير الفلسفي من المفترض أن يقود الناس لحياة أفضل، فإن فلسفة سلبية أخرى فرضها الجموح نحو استخدام التكنولوجيا الحديثة، عزلت الفرد عن محيطه، وجعلت قواعد بغيضة تتحكم في جُل تصرفاتنا، ولا ينجو منها إلا من سيطر على عقله وأصابعه وهو يستخدم تلك المواقع أو منحه الله القدرة على مقاطعتها من الأساس.»