الجمعة 4 يونيو 2021
"تقول الأسطورة ـ وكأغلب أساطيرنا فجزء منها يكون مبنيًّا على جزء واقعي والجزء الأكبر يكون نسجا من خيال أجدادنا، أو أجداد أي أحد آخر ـ إن أميرة فائقة الحُسن والجَمال، كان اسمها «عليسة» (أو إليسا بلغة اليوم) كُتبت حولها القصائد لشدة جمالها وسِحرها، كانت تعيش في «صور» المدينة الفينيقية (لبنان القديمة)، وكانت تحب زوجها الأمير الحاكم حبًّا لم يسبقه حب، ولكن أخاها الذي عُرف بجشعه وحبه للسلطة، أراد أن يستأثر بحكم البلاد لنفسه فقتل زوجها واستولى على الحُكم، ووجدت عليسة نفسها بين نارين؛ عشقها لزوجها وإخلاصها الأبدي له، وحبها لأخيها، وأحست بصراع نفسي كبير وافتقدت عليسة الأمان، فقررت أن تترك فينيقيا وتبحر بعيدا.
جمعت عليسة ممتلكاتها وكنوزها، وأخذت أسطول زوجها التجاري، هي ومن تبعها من الأمراء والأثرياء الذين كانوا ضد نظام الملك الجديد، وكانوا يخافون جبروته وبطشه، وانطلقت في عرض البحر تاركة وراءها فينيقيا وما فيها من ذكريات وآلام، حاملة معها حلمًا في تكوين إمبراطورية خاصة بها، وما إن أصبح الأسطول في عرض البحر حتى أمرت عليسة حاشيتها بإلقاء أكياس كانت في بطن السفن في البحر، ولما سألها مرافقوها عن هذه الأكياس، قالت إنّها كانت تحتوي على كنوز زوجها الشهيد وقد رمتها في اليمّ قربانا لروحه الطّاهرة، وبذلك ضمنت أنها قد أحرقت كل خطوط التراجع على مرافقيها، وفي نفس الوقت أرسلت رسالة واضحة إلى مَن قد يريد التمرّد للاستيلاء على الكنوز المحملة في بطون السفن، فما بقي للجميع إلا الاتحاد خلف هدفها بتأسيس إمبراطوريتها الجديدة ومواصلة الرحلة نحو الأرض المنشودة.
حطت سفن الأميرة على سواحل إفريقية (الاسم القديم لتونس)، التي لطالما سمعت عليسة عن كثرة خضارها وأراضيها الخصبة، واستقبلها ملك البربر الذي يحكم البلاد استقبالا كبيرا، فإلى جانب ثرائها ونفعها التجاري فهي شديدة الجَمال والحُسن، كل من يراها يود التقرب منها، وبعد أن قدّمت عليسة الهدايا والمجوهرات للملك طلبت منه شراء قطعة أرض لتبني عليها مدينتها الجديدة، لكن الملك رفض؛ وذلك لأنه ملزم باتباع قوانين البربر الأمازيغ التي تمنع بيع الأراضي لغير البربر، فطلبت عليسة بأسلوبها الفاتن قطعة أرض بحجم جلد ثور لا أكثر.. فوافق الملك وسط دهشته ودهشة الحضور من طلب الملكة الغريب، اختارت الملكة موقعًا استراتيجيًّا على ساحل البحر، وقالت هنا سنبني مدينتنا الفينيقية الجديدة وسمّتها قرت حدشت (من الفينيقية: قَرْتْ؛ أي مدينة، وحَدَشْت أي حديثة)، فأصبح الاسم «قرطاج» عن طريق النطق اللاتيني، وأخذت جلد الثور وقطعته إلى خيوط رقيقة جدًّا وكونت منه حبلا طويلا أحاطت به الهضبة التي تُعرف حتى اليوم بهضبة «بيرصا»، ومعناها بلغة السكان الأصليين «جلد الثور»، وكانت مفاجأة لملك البربر الذي دهش من شدة ذكائها، ولكنه قَبِل بالأمر فليس من شِيَم الملوك التراجع عن وعودهم، وكانت تلك نقطة الانطلاق لبناء حضارة متطورة قائمة على المِلاحة والتجارة، بين شرق البحر الأبيض المتوسط وغربه. ذكر المؤرخون الرومان والفينيقيون والفرس والإغريقيون مدينة قرطاجة أو قرطاج في كتبهم، فكانت مدينة خيالية، أدهشت ملوك المنطقـة وقياصرة الروم بجمال معمارها وترفها، مطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتعالت فيها القصور والمعـابد بمعمارها ونقوشها الفريدة، وانتشرت بها المسارح والمراقص لشدة ولع الفينيقيين بالفنون.
وأخذت المدينة الحديثة في النمو المتواصل والسريع، واتسع نفوذ عليسة بفضل التجارة بطريقة أزاغت عيون الملوك في البلاد المحيطة بها، وأولهم ملك البربر الذي أراد الزواج منها، بعد أن سحرته بجمالها وذكائها.. ولكن عليسة اعتذرت وأبدت رفضها لأنها قررت الوفاء لحبيبها الراحل، وأن لا تتزوج بعده أبدا، ولكن الملك هددها بتدمير قرطاج وسَبْي كل أهاليها إن لم تقبل، وأدركت عليسة أن المعركة لن تكون أبدا في صالحها، فاستعملت دهاءها لإنقاذ ما بنته في قرطاجة ووافقت على طلب ملك البربر إنقاذا لمدينتها، ولكن بشرط وحيد قَبِله ملك البربر؛ وهو أن يتعهد ويلتزم بالحفاظ على مدينتها وحماية سكانها، ووعدها الملك بشرفه أمام الحشود بهذا، وأن تكون حماية أهل مدينتها دَينًا في عنقه، وشكرته عليسة واتجهت ركضا نحو قِدر كبير من لهب كانت قد أعدَّته من قبل وألقت بنفسها فيه حتى تبقى وفيَّة لزوجها الأول ولا يلمسها بَشر بعده أبدا.. وحقق القرطاجيون رغبة مليكتهم، فحافظوا على المدينة ودأبوا على إنمائها، وحكمها ملوك مصلحون لسنوات طويلة من أشهرهم حنابعل (الذي سمّى القذافي شهر أغسطس على اسمه) فعرفت قرطاج ازدهارها الأكبر في عهده.
وبدأت الإمبراطورية بالاتساع حتى استحوذت على كامل سواحل المغرب العربي من ليبيا حتى المغرب، كما احتلت أجزاء من إسبانيا وجزيرة صقلية وصارت أقوى قوة عسكرية واقتصادية في حوض الأبيض المتوسط الذي صار أغلب سكانه تحت الحكم القرطاجي.
ودخلت الإمبراطورية القرطاجية في سلسلة حروب ضارية مع الإغريق على مناطق النفوذ التجاري، لأنه النشاط الأساسي لكل منهما، وانتصرت قرطاج، وانتزعت صقلية من يد الإغريق؛ الشيء الذي أزعج روما، ودخلت روما في حروب مع قرطاج دامت لسنين طويلة.
أنهكت قرطاج من كثرة الحروب التي خاضتها، رغم أن جيوش حنابعل تمكنت من الوصول إلى وسط روما وتهديد الإمبراطورية الرومانية في عقر دارها، فحشدت روما كل جيوشها وقامت بهجوم كاسح على قرطاج، معتمدة على خيانة بعض المأجورين، واحتل الرومان قرطاج بعد أن حاصرها الجيش الروماني ثلاث سنوات كاملة، لكنها اضطرت للاستسلام بعد صمودها كل هذه المدة فأمر قيصر روما بإحراقها وتدميرها كليا حتى لا يعود لها وجود، وتم رش الملح في كل أراضيها حتى لا ينبت فيها زرع بعد ذاك ولا يتمكن أحد من إعادة إعمارها، كما ذُبح غالب مدنييها وصار الباقون عبيدا في قصور روما، وهكذا خرجت قرطاج من التاريخ، وأصبحت مجرد مقاطعة رومانية.. لكن أعيد بناء قرطاج بعد حوالي مائة عام لتصبح ثاني عاصمة لمقاطعة شمال إفريقيا الرومانية، وثاني أكبر مدينة في الإمبراطورية الرومانية بعد الإسكندرية..."
من كتاب "مشاوير في بلاد كتير" لـ أحمد الليثي ناصف